أستاذ السرد / محمد خضير ناقص ٥_ الخيال السياسي البديل:
في غياب واضح لروايات الخيال السياسي، تصدر رواية (ناقص خمسة) للروائي (شهيد) لتحتلّ لها مكاناً في رفّ المستقبل المزدحم بروايات الديستوبيا الكولنيالية، وتنويعاتها الكثيرة، ومنها النوع العربي والعراقي.
يوم تُرجِمت رواية جورج أورويل (١٩٨٤) كان الافق الروائي مشبعاً بروايات "الأخ الأكبر" وبمعجم التفاؤل الواقعي المزيف. أمّا اليوم فإنّ تلك الرواية تشير إلى عكس اتجاهها المستقبلي_ الشمولية الأوربية التكنولوجية_ لتفرّخ أشكالاً من الشموليات العربية والآسيوية.
لكن تلك الرواية التنبؤية لمجتمع التكنولوجيا القمعية، أفسحت في الرؤية لانبثاقاتِ ما سمّي برواية ما بعد الاستعمار _ الأفريقية والآسيوية خاصة، حيث اختلط البُعد التنبؤي فيها بواقع المجتمعات الصغيرة (غير الشمولية)_ روايات وول سوينكا وأرونداتي روي ونور الدين فرح وعبد الرزاق قرنح مثلاً، حيث أزاح الأبطالُ "الصغار" والمهاجرون دورَ الأخ الشمولي الأعظم جانباً ونافسوا أنموذجَه القمعي التقليدي. إنّ مزيجاً من الصراعات المحلّية وبقايا الدولة الأوتوقراطية بدأ يشكّل نسيجَ هذه الروايات البديلة. وفي منطقتنا العربية، لربما افتتحت روايتا نجيب محفوظ (أولاد حارتنا) و(الحرافيش) تياراً محلياً_ بديلاً للخيال السياسي الأوربي.
وعلى جانبنا، أدخلت رياحُ التغيير الروائي بدائلَ عديدة للدستوبيا الأوربية، حرّكت عجلة الخيال السياسي لروايتنا العراقية. ففي معظم روايات (طه حامد الشبيب) نقرأ ملامح جديدة من هذا النوع، شقّ سبيله برؤية ذاتية، مستقبلية، تصارع من أجل البقاء بين النمطين الأكبرين: الديستوبيا الكولنيالية، والوطنية ما بعد الكولنيالية. ولو وسّعنا دائرةَ الخيال السياسي قليلاً أو كثيراً، فستنساق روايات (شهيد) الثلاث: كش وطن، سارق العمامة، ناقص ٥، تحت هذا التصنيف، الذي اخترتُ له تسمية "الفانتازيا البغدادية"، وتضمّ تحت جناحها روايات احمد سعداوي وعشرات من كتّاب التغيير بعد ٢٠٠٣.
تتعاظم اليوم محاولات الخروج من الخانق الديستوبي (بتنوعاته الكولنيالية والأسطورية) وتصدر رواية (ناقص خمسة) لتقترب من الاتجاه الفنتازي المستقبلي، واستثمار ممكنات الصراع السياسي الداخلي، بل أنها تستعير قسماً من الممكنات الأوربية أيضاً، عبر اختراع فضاء من التسميات المستقبلية مثل "بيت التوبة" و"مؤسسة إدارة التاريخ " و"هيئة السلامة المجتمعية" إضافة إلى نظرية (_ ٥) الإصلاحية، وغيرها من اصطناعات المجتمع التكنولوجي؛ سوى أنّ رواية (شهيد) لا تذهب أبعد من العام ٢٠٣٥، وهي لا تزال مشبعة بأنماط الصراع السياسي التقليدي (حَجْر الزعامات السياسية الفاسدة في مَحجَر واحد). وسنرى أنّ نبرة "التفاؤل" بمجتمع سعيد، مثالي، سيسحب روايتَه إلى الحدّ الأقصى من الخيال السياسي، حتى ليكاد يقترب من منطقة المدينة الفارابية الفاضلة (باعتبارها أقرب الممكِنات في واقعنا العربي).
إنّ أخطر ما يهدّد رواية الخيال السياسي العربي/ العراقي الحديث، تشييدها لمجتمع مستقبليّ افتراضيّ صرف، لا يستند لسوى مخططات طوباوية، حُلمية، فانتازية، مقابل ما تصطنعه الرواية الأوربية من قاعدة مادية، علمية وعقلية تطورية، راسخة في الوعي الحداثي وما بعد الحداثي لعالم اليوم التكنولوجي. وبهذا التخييل المحض، تنطوي روايتُنا على حداثة المجتمعات ما قبل الصناعية، حسب تصنيف آلان تورين لحداثات العالم المتجددة. ولكي تُدرك حداثتَها المستقبلية "الفوقية" تلجأ روايتُنا المستقبلية إلى معجم خاص باللغة الموروثة من عهود ماضية؛ فكأنّها تتخيّل عالماً صاعداً من صفحات الحكايات القديمة (على العكس من اصطناع جورج أورويل لمعجم خاص بعالمه المستقبلي ألحقه بروايته ١٩٨٤ تحت عنوان: نيو سبيك). ويشكّل هذا التوازي بين اللغة المبتكرة والتصوّر النقيض لعالم الأمس عمودَ الاختراع الديستوبي الأوربي المستقبلي، بينما يختفي مثل هذا الصراع العميق كلّياً من روايتنا؛ بل يجري التعويض عنه بجماليات الفنتازيا المتخيّلة وحدها.
إلى ايّ حدّ ستصمد رواية (شهيد) أمام تأويل اللغة والبناء والتصوّر الحداثيّ_ أمام عتبات التغيير الشامل ليوتوبيات الأمس الفنتازية؟ وهل ستضيف نصّاً مغايراً لفانتازيات بغداد التقليدية، أم انها ستُركن وتُنسى تحت سقف الممكنات المحلية وحسب؟ اعتقد أنّ تحديات كبيرة تواجه عتبات روايات الخيال السياسي الثلاث التي انتجها (شهيد) في ظرف السنوات السبع الماضية.
أولى هذه العتبات، عتبة الاسم المستعار لكاتبها (شهيد) وما يحيل إلى دلالة الخطاب الأيديولوجي/ الشعبويّ المضمر في وعينا القرائي. وغير هذه العتبة المانعة للدخول "الحرّ" في عالمه الداخلي، فإنّ تفاصيل كثيرة من صراع الأضداد الواقعية (فساد الزعامات السياسية وموقف الشعب منها في رواية: ناقص خمسة) ظلّت راسبة تحت بنية اللغة والتصور المستقبلي، كي تحدّ من سرعة الانفصال عن بؤرة الماضي وحنين الراوي (الأول دائماً في الرواية) للحسّ الانتقادي الشائع في شارع اليوم.
____________
* صدرت رواية (ناقص خمسة) للروائي شهيد، عن دار الرافدين، ٢٠٢٢.