JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
BASRAH WEATHER
Startseite

الكون 25 والإنسان الرقمي


 الفريق الدكتور

سعد معن الموسوي 

رئيس خلية الإعلام الأمني

في عالم يتسارع فيه التطور التكنولوجي حتى صار الإنسان يعيش في وفرة لم يعرفها من قبل، تطرح أسئلة فلسفية ونفسية عميقة حول معنى التقدم وجدواه، وهل الوفرة المطلقة قادرة على صناعة إنسان أكثر سعادة واستقرارًا أم أنها تحمل في داخلها بذور الانهيار والفراغ. واحدة من أكثر التجارب العلمية التي تضيء على هذا السؤال تجربة عالم الأحياء الأمريكي جون كالهيون المعروفة بالكون 25، حيث وفّر لفئران مختبر بيئة مثالية تضم طعامًا وماءً ومسكنًا وأمانًا بلا حدود، وكان المتوقع أن يزدهر المجتمع الحيواني بلا توقف، لكن النتيجة جاءت عكس ذلك. فبعد نمو سريع للسكان بدأت علامات الانهيار بالظهور، انعزل الذكور عن أدوارهم الطبيعية، تخلت الإناث عن صغارها، انتشرت السلوكيات العدوانية والشاذة، توقفت الولادات حتى انقرض المجتمع بالكامل. أعاد كالهيون التجربة أكثر من مرة والنتيجة بقيت نفسها: الوفرة المطلقة لا تقود إلى الازدهار بل إلى موت بطيء يبدأ من الداخل.


هذا المشهد العلمي يضعنا أمام مرآة معاصرة للعالم الرقمي الذي نعيشه اليوم، إذ يعيش الفرد في وفرة من المعلومات والخيارات والاتصال والترفيه والاستهلاك اللحظي، ومع ذلك لم يؤد هذا الفيض إلى استقرار اجتماعي أو نفسي، بل ارتفعت نسب العزلة والاكتئاب والقلق وتفكك الروابط الأسرية وظهرت حالة من الاغتراب الرقمي تشبه إلى حد بعيد عزلة الفئران وانسحابها من وظائفها الطبيعية. لقد تحول فائض الإمكانات إلى عبء معرفي ونفسي، وصار الإنسان يشعر بفراغ داخلي يطغى على أي مظاهر للراحة المادية.


علم النفس يفسر هذه الظواهر بأن غياب الحاجة والتحديات يسلب الفرد معنى وجوده، وأن الوفرة المطلقة تجعل الخيارات بلا قيمة، فينهار نظام المعنى الذي تقوم عليه الحياة الإنسانية. وفي ضوء ذلك تبدو تجربة الكون 25 ليست مجرد دراسة على الفئران، بل نموذجًا تحذيريًا لما قد يحدث للبشرية حين تتعامل مع التقدم الرقمي بنفس منطق الوفرة الخالية من القيم.


القرآن الكريم يقدم رؤية أعمق لهذه الإشكالية حين يقول تعالى ﴿ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير﴾ [الشورى: 27]. فالآية تشير بوضوح إلى أن الوفرة المطلقة ليست رحمة وإنما قد تكون سببًا للطغيان والاضطراب، وأن الحكمة الإلهية تقتضي التقدير والميزان. وإذا أسقطنا هذا المبدأ على واقعنا الرقمي أدركنا أن الوفرة المعلوماتية والتكنولوجية قد تتحول إلى نقمة إن لم تُضبط بوعي ومعنى يحددان الاستخدام ويوجهانه نحو البناء لا الهدم.


إن ما تكشفه التجربة العلمية وما ينطق به النص القرآني يلتقيان في نقطة واحدة، وهي أن المجتمعات لا تزدهر بالمادة وحدها وإنما بالمعنى والتوازن والتحدي. والإنسان المعاصر الذي يغرق في بحر من البيانات والخيارات يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة تعريف علاقته بالتكنولوجيا من خلال منظومة قيمية وأخلاقية تحفظ له إنسانيته، وإلا فإن الوفرة ستقوده إلى المصير ذاته الذي انتهت إليه الفئران في الكون 25.


بهذا تصبح القضية ليست مجرد بحث في سلوك الحيوان أو تحليل لظواهر رقمية، بل سؤال وجودي عن مستقبل الإنسان في زمن الوفرة الرقمية، وهل يمتلك الوعي الكافي ليجعل من هذا التقدم وسيلة للبقاء والنهوض لا طريقًا للاضمحلال والانقراض.



NameE-MailNachricht