إصبع على الجرح ..
مع كامل الإجلال والإكرام لشيوخ العشائر بما تختزن لهم الذاكرة من مواقف جليلة في الدفاع عن الوطن وتبؤهم موقع العقل والحكمة وإصلاح ذات البين وكرم الضيافة .. شيوخ العشائر الذين إن جلسوا علا المجلس وإن نطقوا سكت الناس وإن تقدموا تقدم الحضور خلفهم … لكن الريح السياسية التي هبت في مواسم الانتخابات بكل ما تحمله من فوضى وغموض وفساد وروائح كريهة كشفت لنا ما تخفيه الأيام وعرّت ما يغطيه بعض ارباب العقال والمضايف والمشيخة . لقد أغرت مليارات السحت الحرام والامتيازات المجنونة في ديموقراطية العجائب العراقية من الحمايات والمواكب والتبختر والحصانة بعض الشيوخ فتقدموا إلى ميدان السياسة حيث خيّل إليهم أن الصناديق ستنحني طاعة لهم وأن الأصوات ستسير خلفهم كما يسير اولاد الحمولة خلف كبير القوم . لكِن الواقع أثبت إن عالم السياسة لا يعرف العقال ولا يهاب البيرغ ولا يستحي من المقام . إنه ميزان لا يميل إلا للبيع والشراء وحكم المزاج فضلا عن الحساب المادي المرتبط احيانا بريمونت ما خلف الحدود ومحك لا يجامل صاحب الجاه والبخت وطريقٌ لا تعبده كرامات ولا تشيده سوالف الحسچة في المضايف ولا موائد الكرم .لقد انتهت لعبة الانتخابات كما تنتهي لعبة القمار بين خاسر ورابح ولما خرج بعض الشيوخ خاسرين تعالت الأسئلة في صدور الرجال قبل مجالسهم ,
هل ترك أبناء العشيرة شيخهم ؟ أم ترك الشيخ ميدانه الذي تربى عليه وخُلق له ؟ هل رفع الأبناء أيديهم عن شيخهم ؟ أم رفع الشيخ قدمه عن أرضه إلى أرض ليست له فجاءته العاقبة بما لا يشتهي ؟ لقد بان للكثير من أبناء القبائل أن المشيخة مقام له قدسيته وأن الفصل وإصلاح ذات البين وفض نزاعات القاتل والمقتول علوم لها أهلها وفطرة لها أصحابها وكرامة لها من توارثها .أما السياسة فهي سوق تعتريه الظلمة والخداع ويدخله من يجيد البيع والشراء لا من يجيد الإصلاح وحقن الدماء . هي لعبة قاسية لا تنتصر فيها المروءة دائمًا ولا يكافأ فيها الصدق كثيرا بل تُفرض فيها أدوار الكذب ساعة والنفاق ساعة والمجاملة ساعات أما الشيخ بما له من هيبةٍ ومقام لا يليق به أن يتلون كالساسة ولا أن يجيد المراوغة فيمشي على حبال البهلوان كما يمشي محترفو السيرك وارباب المزايدات . الشيخ مسؤول عن كلمته والسياسة تحتاج لسانا يتلو ما لا يعتقد ووجها يبتسم لمن لا يود وقلبا يخفي ما يظهر . فهل يليق ذلك بوجه الشيخ الوقور الذي لا يعرف إلا الصراحة ولا يحمل إلا النخوة ولا يقول إلا الحق . إن بعض الشيوخ حين دخلوا دهاليز السياسة ظنوا أنها امتداد لحنايا المضايف وأن الحديث المؤطر برائحة القهوة سيقنع الناخب كما يقنع الضيف وأن الهيبة ستحضر في عيون عبيد الأصنام . هي رسالة لجميع حكماء العقل أن السياسة عالمٌ يختلط فيه الحق بالباطل والصوت بالمال والوعد بالسراب والضمير باللاشيء وليس كل من عظم مقامه في العشيرة يعلو مقامه في صراع الكراسي وألعاب النفوذ والصفقات المشبوهة . خسارة الشيوخ في الانتخابات رسالة على قسوتها الا أنها كُتبت بمداد الوطن لا مداد الديوان ليظل الشيخ شيخا في مضيفه لا سياسيا في حلبة لا تحفظ لمقامه مقاما . فلا هو خسر مكانته بين قومه ولا خسر الناس احترامه بل كسبوا جميعا وعيا جديدا يزيدهم بعدا للنظر ونورا للبصيرة . إن المشيخة مقام نبيل كما هو مقام رجال الدين لا يليق أن يدنسوا بصفقات السياسة ولا أن يلوثوا بنفاقها ولا أن يختزلوا في أرقام صندوقٍ أو مقعد برلمان . فهل آن الأوان أن نقولها بلا وجل يا شيخنا الجليل مكانكم ساميا فوق الرؤوس لا تحت سقف السياسة الواطئ في أغلب تفاصيله وخفاياه الا ما رحم ربي ....
