بقلم الفريق الدكتور
سعد معن الموسوي
رئيس خلية الإعلام الأمني
…………………………..
لا تزال قيمة الوفاء بالعهد واحدة من أندر المعادن في زمن تتعدد فيه الوجوه، وتتشابه الأقنعة، ويضيع صوت الحق بين ضجيج المصلحة وتقلبات الهوى. وفي العمل الأمني على وجه الخصوص، تبقى الكلمةُ عهدًا، والوعدُ مسؤولية، والرجولةُ موقفًا لا يتجزأ. فمَن لا يثبت على كلمته، لا يمكن أن يثبت على موقف، ولا أن يحمل أمانة، ولا أن يصون وطنًا.
لقد علّمنا تاريخُنا، وتاريخُ الإسلام بوجه خاص، أن الرجل يُعرف بثباته عند مواضع الاختبار، وأن الوعد ليس جملة تُقال، بل روح تُحمَل ووفاءٌ يُصان، حتى وإن كلّف ذلك حياة صاحبها.
ومن أبلغ الشواهد على ذلك ما رُوي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حينما قُتل رجلٌ خطأ، وقُدّم القاتل للقصاص. فطلب الرجل مهلةً ليقضي أمرًا لا يعرفه إلا هو. فسأله الإمام علي: “ومن يكفلك؟”. فيقوم الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري ويقول: “أنا أكفله يا أمير المؤمنين”، غير عابئ بما قد يجرّه ذلك من تبعات، ولا بما قد يخسره لو لم يرجع الرجل في الموعد المحدد.
انطلق القاتل، ومضت الأيام، وجاء وقت القصاص… وكان الموقف الذي يُختبر فيه الرجال. وقف أبو ذر ثابتًا، يعرف أنه قد يفقد حياته لأنه كفل مجهولًا لا يعرف عنه شيئًا، إلا أنه التمس فيه صدقًا فوثق به.
وفي اللحظة الأخيرة، وقبل أن يُنفذ الحكم، يعود الرجل راكضًا، ملتزمًا بوعدٍ يمكنه أن يفلت منه لو أراد، لكنه عاد… لأنه رجلٌ لا يخون كلمةً قالها.
ذلك المشهد وهو مشهد الوفاء المتبادل لم يكن حدثًا عابرًا، بل درسًا خالدًا في ميزان الرجولة. درسٌ يقول إن الوعد مسؤولية أكبر من الحياة نفسها، وأن الرجال الذين تُبنى بهم الأوطان هم الذين لا تتغير مواقفهم مهما تغيّرت الظروف.
وفي زماننا اليوم، حيث تتسابق المصالح، وتتباين الضغوط، وتُختبر المواقف كل يوم، يبقى الاحتياج إلى رجالٍ يشبهون أبا ذر، ورجالٍ يملكون شجاعة ذلك القاتل الذي عاد للقصاص، أكبر من أي وقت مضى نحتاج إلى رجالٍ. لا تُشترى كلمتُهم، ولا تُكسر وعودُهم، ولا تتغير مواقفُهم.
رجالٍ يعرفون أن الأمم تُبنى على الثقة، وأن الأمن يبدأ من صدق الرجال قبل صرامة القوانين.