JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
BASRAH WEATHER
الصفحة الرئيسية

من خشونة البيداء إلى رقة الدجلة: حكاية قلب صاغه المكان


د. صلاح الدليمي 

خلف كل قصيدة عظيمة حكاية تعكس طبيعة النفس البشرية وقدرتها المذهلة على التحول. وقصة الشاعر "علي بن الجهم" مع الخليفة المتوكل ليست مجرد نوادر أدبية، بل هي سيمفونية تعزف على وتر التأثر بالجمال، وتثبت أن الإنسان ابن بيئته، وأن الكلمة القاسية قد تخفي خلفها أنقى المشاعر.

جفاء الصحراء.. صدق بلا زينة

حين وقف علي بن الجهم أمام الخليفة لأول مرة، لم يكن يحمل معه سوى إرث البادية: شمسها الحارقة، ورمالها الخشنة، وصدقها العاري من التكلف. عندما قال: "أنت كالكلب في حفظك للود.. وكالتيس في قراع الخطوب"، لم يكن يهين مقام الخلافة، بل كان يقدم أسمى آيات المديح بلغة الصحراء التي لا تعرف الالتواء.

كان يرى في الكلب وفاءً نادراً، وفي التيس صلابةً لا تلين أمام المصاعب. كانت كلماته "فظة" في ظاهرها، لكنها كانت "ناصعة" في جوهرها، تنبع من قلب بدوي لم يختبر بعد رقة الظلال أو عذوبة الأنهار.

حكمة الحاكم.. عين تبصر ما وراء اللفظ

هنا تبرز عظمة "المتوكل"، ليس كخليفة فحسب، بل كخبير في النفوس. لم تأخذه العزة بالإثم، ولم ينظر إلى قشور الكلمات، بل نفذ بصيرته إلى عمق الشاعر. أدرك أن هذا "الجفاء" هو غلاف لصدق مشاعر لا تشوبه شائبة. وبدلاً من العقاب، قرر المتوكل أن يُجري "تجربة إنسانية" فريدة، فنقله من قسوة الصحراء إلى دلال دجلة، حيث البساتين، والمياه الجارية، والنسيم العليل.

التحول الكبير.. حين أزهرت الكلمات

لم تطل المدة حتى فعل السحر فعله. فالمكان ليس مجرد حيز جغرافي، بل هو صانع للروح. وحين عاد ابن الجهم للوقوف بين يدي الخليفة، لم يعد ذاك البدوي الجلف، بل عاد شاعراً يقطر عذوبة، لينشد البيت الذي خلدته ذاكرة الأدب العربي:

> عُيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ .. جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري

لقد ذابت تلك الخشونة في مياه دجلة، واستحالت "الدلاء" والكلاب" إلى "عيون مها" و "هوى" يسكن الروح. تحولت القصيدة من وصف القوة البدنية إلى تصوير رقة العواطف، وكأن الشاعر اكتشف في داخله بستاناً لم يكن يعلم بوجوده.

العبرة في الختام

تعلّمنا قصة "عيون المها" أن الجمال يستولد الجمال، وأن القلوب القاسية قد لا تكون سوى مرايا لبيئات لم تُمنح الفرصة لتلين. لقد أثبت المتوكل أن الاحتواء يغير النفوس أكثر مما يفعل الزجر، وأثبت ابن الجهم أن داخل كل "صخرة" بدوية، ينبوعاً من الرقة ينتظر من يفجره.

ستظل هذه القصة تذكرنا دائماً بأننا لسنا سوى انعكاس لما يحيط بنا، وأن الكلمة الطيبة والبيئة الحانية كفيلتان بتحويل "النباح" إلى "تغريد"، والخشونة إلى حرير.

الاسمبريد إلكترونيرسالة