الباحث : د. صلاح بوشي
في عصر تتسارع فيه التحولات الرقمية وتنتشر فيه منصات التواصل الاجتماعي بسرعة غير مسبوقة أصبح المجتمع العراقي أمام ظاهرة الانفلات الرقمي التي لم تعد مجرد سلوك فردي غير مسؤول بل تحولت إلى تهديد حقيقي لهويته الوطنية وقيمه الاجتماعية والأخلاقية . ويمكن وصف هذا التأثير بأنه ( استعمار بارد ) إذ يسعى إلى زعزعة الثوابت الثقافية والاجتماعية عبر الفضاء الرقمي من دون مواجهة تقليدية أو مباشرة .
مظاهر الانفلات الرقمي
يتجلى الانفلات الرقمي بعدة مظاهر تؤثر بشكل مباشر على المجتمع :
1. المحتوى المسيء والمضلل : انتشار الأخبار الكاذبة والتحريضية والمعلومات المغلوطة التي تؤثر على وعي الشباب والمجتمع بشكل عام .
2. السلوكيات غير الأخلاقية : استخدام اللغة المسيئة التشهير التحريض على العنف أو نشر محتوى يتعارض مع القيم والموروث الاجتماعي .
3. ما يُنشر في الصفحات الشخصية ووسائل التواصل : كثير من المشاركات الفردية غير المنضبطة وغير المقبولة تمثل محتوى دخيلًا على المجتمع العراقي ويستهدف القيم الاجتماعية والأخلاقية سواء بشكل مباشر أو غير مباشر ويؤثر على الهوية الوطنية ويضعف التماسك المجتمعي .
4. غياب الرقابة الذاتية والمسؤولية : تجاهل أثر الأفعال الرقمية على النسيج الاجتماعي وعلى الهوية الوطنية والثقافية .
ولا تقتصر آثار هذه الظواهر على الأفراد فقط بل تشكل تهديدًا استراتيجيًا للهوية الوطنية والثقافة الاجتماعية العراقية خاصة لدى الأجيال الناشئة التي تمثل مستقبل المجتمع .
فقد أظهرت الدراسات الحديثة أن الانغماس المستمر في المحتوى المسيء أو المضلل يؤدي إلى ضعف القيم الأخلاقية وتراجع الالتزام الاجتماعي وانتشار السلوكيات العدوانية أو الانعزالية بين الشباب .
الأبعاد الاجتماعية والسياسية للانفلات الرقمي
يتجاوز الانفلات الرقمي كونه قضية أخلاقية أو تربوية ليصبح أداة ذات أبعاد سياسية واستراتيجية. فانتشار المعلومات المضللة والتحريضية يمكن أن يؤثر على الرأي العام ويضعف ثقة المجتمع بمؤسساته ويخلق بيئة خصبة للتدخل الخارجي في الشؤون الداخلية .
وهذا ما يجعل الانفلات الرقمي أشبه بـ ( استعمار بارد ) يزرع الانقسام ويستهدف الهوية الوطنية والثقافة الاجتماعية .
أهمية التصدي للانفلات الرقمي
مواجهة الانفلات الرقمي ليست مهمة قانونية أو تقنية فحسب بل هي مسؤولية وطنية استراتيجية تتطلب نهجًا متكاملًا يشمل القانون التربية الإعلام والمجتمع المدني لتحقيق :
• إصلاح السلوك الرقمي : ترسيخ قيم الانضباط والمسؤولية الفردية والجماعية في التعامل مع الفضاء الرقمي .
• صون القيم الاجتماعية والموروث الثقافي العراقي : حماية المجتمع من الانحراف الفكري والسلوكي .
• حماية الأجيال الناشئة :
تعليم الشباب كيفية استخدام التكنولوجيا بشكل آمن ومسؤول مع تعزيز حس النقد والوعي .
• تعزيز الوعي المجتمعي : نشر ثقافة الرقابة الذاتية والمسؤولية الاجتماعية بين جميع فئات المجتمع .
• تطوير أدوات وطنية للرصد والمتابعة : إنشاء منظومة لرصد الانحرافات الرقمية والتدخل الفوري عند الضرورة .
الحلول المقترحة والاستراتيجية الوطنية
تستند الاستراتيجية الوطنية لمواجهة الانفلات الرقمي إلى عدة محاور متكاملة :
1. التشريعات واللوائح الوطنية :
وضع قوانين واضحة لتنظيم الفضاء الرقمي مع ضمان حماية حرية التعبير لكنها تحد من الانتهاكات والأفعال المسيئة .
2. التوعية والتثقيف الرقمي : إطلاق حملات توعوية تستهدف جميع الفئات العمرية مع التركيز على المدارس والجامعات لتعليم الشباب الثقافة الرقمية والقيم الاجتماعية .
3. التعاون مع منصات التواصل الاجتماعي : إقامة شراكات مع الشركات التقنية لضمان مراقبة المحتوى وتطوير آليات للتبليغ عن الانتهاكات الرقمية .
4. تأسيس الهيئة الوطنية للانضباط الرقمي وصون القيم الاجتماعية العراقية : كهيئة رسمية متخصصة لرصد الانفلات الرقمي وتنظيم المحتوى الرقمي وضمان تطبيق الاستراتيجيات الوطنية بشكل متكامل .
5. البحوث والدراسات المستمرة :
إجراء بحوث دورية لمتابعة تأثير الانفلات الرقمي على المجتمع ووضع توصيات مستقبلية لتطوير السياسات والإجراءات .
الخاتمة
إن الانفلات الرقمي يشكل تهديدًا حقيقيًا للقيم المجتمعية والثقافة الوطنية ويستلزم استجابة وطنية شاملة وحكيمة . حماية الفضاء الرقمي وصون القيم الاجتماعية ليست مجرد تقييد للحرية بل توجيه هذه الحرية بما يحمي المجتمع والأجيال القادمة .
إن المجتمع العراقي قادر عبر الجهود الرسمية والمجتمعية والتربوية على مواجهة هذا التحدي وتحويله إلى فرصة لتعزيز الانضباط الرقمي وإعادة بناء الفضاء الرقمي بما يعكس قيمه وأصالته وهويته الوطنية .
